ميخائيل عوض
١
تنسيقٌ وتخطيطٌ متكاملٌ، وإدارةٌ مُتقنةٌ، وتنفيذٌ بإيقاعِ عقاربِ الساعةِ.
الهدفُ: سوريّةُ. فمن يحكمُها وتستقرُّ له، يتحكّمُ برياحِ الأرضِ الأربعةِ.
هذا ما قالهُ سرجون قبلَ ثلاثةِ آلافِ سنةٍ، فبغدادُ قُبّةُ السماءِ، والشّامُ عامودُها.
وعدُها لم تُخْلِ به منذُ بدءِ الخليقةِ والتّاريخِ، فكانت أوّلَ العُمرانِ، وأوّلَ من دجّنَ الحيوانَ، وأوّلَ من ركبَ البحارَ، ونظّمَ الاجتماعَ البشريّ، فأوّلُ مدينةٍ عاصمةٍ ما زالت بعُمرِ آلافِ السنواتِ.
ومنها صَدَرَ اللونُ، والحرفُ، والحِرَفةُ، والمحراثُ، والنّوتةُ، والقوانينُ، وآليّاتُ الشّورى، والتحكيمِ، والقضاءِ، والأهمُّ: الأديانُ ورسالاتُ السّماء.
ولكونِها عصيّةً، كانتْ وتستمرُّ وتُقاومُ، تتوعّكُ ويهتزُّ العامودُ، لكنّها لم ولن تقعْ.
سادَتْ أزمنةً طويلةً، وطَبَعَتْ الحياةَ الإنسانيّةَ بطبائعِها وقيمِها، وارتبَكَتْ واضطربتْ، واحتُلّتْ، وثارتْ، واستمرّ ساحلُها مثلّثَ صناعةِ مستقبلِ الإنسانيّةِ بزواياه الذّهبيّةِ الثّلاث: القدسُ وغزّةُ / بيروتُ / بغدادُ.
وكلّما هُزِمَتْ إمبراطوريّةٌ، مهما كانتْ قويّةً وعاتيةً، في واحدةٍ من الزوايا، تراجَعَتْ واندثَرَتْ.
وفي الجاري منذُ خمسةِ عقودٍ، تُهزمُ أمريكَا وأدواتُها وعالَمُها الأنجلوسكسونيُّ في الزوايا الثّلاث، وستنحسرُ وتغيبُ شمسُها، وتعودُ مأزومةً ومتوترةً إلى جزيرتِها تحتمي بالمحيطاتِ.
٢
تلك مقولاتٌ ووقائعُ، وأحداثُ التّاريخِ يتّفقُ على خلاصاتِها المستشرقونَ، والمؤرّخونَ، والبُحاثةُ، والجيو-بولوتيكيّون العصريونَ.
آخرُ من أقرَّ بحقيقتِها ترمب، عندما هنّأ أردوغانَ على احتلالِ سوريّةَ، الأمرُ الذي لم ينجحْ به أحدٌ منذُ ألفي سنةٍ.
ومبعوثُه توماس براك اعترفَ وأقرّ أنّها مختلفةٌ، وأنّ تقسيمَها بـ"سايكس-بيكو" كان انتحارًا ومحاولةً لنحرِها، ووعدَ بألاّ تُقسَّمَ بعد، بل يعملُ على أن يُعادَ تجميعُ الشتاتِ، وانبرى يُحذّرُ لبنانَ بالعودةِ جزءًا من ساحلٍ للشامِ.
نعم، أقرَّ بحقيقةِ الأزمنةِ والجغرافيا، فنَطقَ حقًّا، لكنّه تجاهَلَ واقعًا أنّ ساحلَ الشامِ يمتدُّ من إسكندرونَ وجبالِ طوروس وزغاروس إلى ساحلِ غزّةَ، وغزّةُ تُعْجِزُ إسرائيلَ وأمريكا وعالَمَهم العدوانيَّ، وتُعيدُ "يمنَ الإيمانِ والحِكمةِ" إلى عروبتِهِ، يمزّقُ الخرائطَ، ويدفنُ "سايكس-بيكو" وكياناتِه ونُظُمَه، وتجعَلُ مشاركتَه في حربِ الإسنادِ قوّةً متعاظمةً بحريّةً وبرّيّةً، لتؤكّدَ صفتَها: الجناحَ الجنوبيَّ للعربيّةِ، تُؤهّلُ الأزمنةَ لعودةِ شمالِ العربيّةِ (الشامِ) للفَعّاليّةِ، وإلى وظيفةِ توليدِ الجديدِ الجاري مخاضُه قاسيًا. وقد استوطنتِ الدّماءُ والحروبُ الشامَ، وذلك فِعلٌ مؤقّتٌ لن يَدومَ.
٣
محاولةُ تدميرِ سوريّةَ وتفكيكِ وحدتِها الوطنيّةِ لتفجيرِ قلبِها النّابضِ عروبةً جاريةٌ على قدمٍ وساقٍ، ويستعجلُها الفاعلونَ العابِرونَ من أطرافِ الدّنيا لتنفيذِ المهمّةِ بالسرعةِ الكليّةِ، فزمنُهم وزمنُ من يُوظّفُهم سريعُ السّريانِ.
براك يُحذّرُ لبنانَ، ويُشغلُه بالمخاطرِ والضّغوطِ، وحملةٍ إعلاميّةٍ مُفبركةٍ عن سبقِ تخطيطٍ تُهوّلُ بالأجانبِ يحتشدون على الحدودِ، ويغزون طرابلسَ والشّمالَ، والجولاني يلتقي الإسرائيليّين في أذربيجان.
بينما الحشودُ تتّجهُ إلى جبلِ العربِ، فتطويعُ وإهانةُ طائفةِ الموحّدينَ الدّروزِ وإرهابُهم هو الهدفُ المُتَّفَقُ عليه بين إسرائيلَ والحكومةِ المؤقّتةِ في دمشقَ. فبعدَ جبالِ وساحلِ سوريّةَ، وإرهابِ والتّنكيلِ بالعلويّينَ، أتى الدّورُ على الدّروزِ.
والقاعدةُ الثابتةُ المؤكّدةُ بطبائعِ الشّامِ، وأصولِ تأسيسِها وبقائِها، ومساراتِ تحرّرِها، وسرّ ثوراتِها المتّصلةِ، وكُنهِ وطنيّتِها ومقاومتِها الأبديّةِ: أن يُستهدفَ الجبلانِ، فيُقاتِلا ويَصمُدا ويَستنزِفا، ويَكشِفا المخطّطاتِ ويُعرّيانِها، ثم تثورُ السُّنيّةُ المدنيّةُ، فإسلامُ الشّامِ وفِرَقُه وزّعت دُعاةً وقُضاةً ومهندسينَ وعباقرةً إلى العالمِ، لا تحتاجُ مَن يُعلّمُها الإسلامَ الإنغوشيَّ، والشيشانيَّ، والأوزبكيَّ، والأذريَّ، والإيغوريَّ على ما هو جارٍ.
وتجّارُ حلبَ والشّامِ وصناعيّوها علّموا الأممَ والشعوبَ فُنونَ التّجارةِ والصّناعةِ وقيمَ الإنسانيّةِ، ولم يُبخِلوا يومًا، ولا رفعوا رايةً بيضاءَ.
٤
المخطّطُ واضحُ الأهدافِ والأدواتِ، والتّكاملِ والتّنسيقِ بين فرقائِه.
براك يُثيرُ الغبارَ والقنابلَ الصّوتيّةَ، والإعلامُ المأجورُ والسّاذجُ يُشغلُ البالَ ويحرّفُ الأنظارَ، وجماعاتُ الإرهابِ الأسودِ تتحرّشُ وتَفتعلُ الأزماتِ والاشتباكاتِ بين البدوِ والموحّدينَ في السّويداءِ وجبلِ العربِ، ومؤسّساتُ الحكومةِ المؤقّتةِ تَحشدُ لِتحصُدَ وتَتملّصَ من المسؤوليّةِ بذريعةِ أنّها لا تَمونُ على الفصائلِ، والإسرائيليّون يُهوّلونَ ويستعرضونَ بزعمِ أنّهم يُساندونَ ويَحمونَ، وبعضُ المُرتَهَبينَ من أبناءِ الجبلينِ يَستعجلونَ ويُناشدونَ ويُطالبونَ بالحمايةِ الدوليّةِ.
هكذا نُسِجَتِ المؤامرةُ، ويَجري تنفيذُها في الواقعِ.
فالإسرائيليُّ يُحاولُ ويَسعى لِيَستميلَ ويُشرعنَ نفسَه كأنّه مطلبٌ. أمّا الموحّدونَ كما المسيحيّونَ، فلهم تجربةٌ طازجةٌ في لبنانَ بعد اجتياحِ ١٩٨٢، فلا أمَّنَ الإسرائيليّونَ المسيحيّينَ، ولا حمَوا الموحّدينَ، وجُلُّ ما فَعلوه المتاجرةُ بهم لتحقيقِ مصالحِهم، وتَرَكوهم لشأنِهم في بحيراتِ الدّمِ والصّراعِ المسلّحِ.
هدفُ إسرائيلَ: كسبُ الخائفينَ والمُتردّدينَ. فالجيشُ الإسرائيليُّ يُعاني من أزماتٍ حادّةٍ، ونقصٍ في العديدِ فاضحٍ، ومشاريعُ نتنياهو لـ"إسرائيلَ الكبرى" و"الشّرق الأوسط الإسرائيليِّ" مَعطوبةٌ لِغيابِ العددِ البشريِّ والقُدراتِ.
٥
أمّا الجولانيُّ وحكومتُه المُنتدَبةُ من نتنياهو وأردوغان، فقد كشف السرُّ ترمب وبراك بتصريحاتٍ علنيّةٍ أكّدَتْ أنّ نتنياهو من طَلَبَ تجميدَ العقوباتِ والاعترافَ بالشرعِ وحكومتِه، وليس أحدًا آخر، ولصالحِه تمتِ العمليّةُ واللّقاءُ بين ترمب والجولاني، وتتمُّ الحفاوةُ والتّبنّي.
الجولانيُّ وفصائلُه، وعبرَ التّعليماتِ البريطانيّةِ، يُنفّذونَ المخطّطاتِ ببرودةِ أعصابٍ، وبخديعةِ التّحوّلِ من العسكرةِ إلى المدنيّةِ، والتّعاملِ الشّكليِّ الهادئِ.
وفي الظّلامِ والتّعتيمِ الإعلاميِّ والتّآمرِ، يُطلِقونَ العصاباتِ والجماعاتِ بذريعةِ عدمِ امتثالِها، فتقومُ بالمجازرِ والتّرهيبِ والإذلالِ، وتتقدّمُ قوّاتُ الأمنِ والجيشِ، فتَضعُ يدَها كمُخلّصٍ ومُنقِذٍ، وما أن تَستتبَّ الأمورُ، حتّى تبدأَ عمليّاتُ التّصفيةِ والاغتيالاتِ وخَطفِ النّساءِ وتهجيرِ القُرى، والاستيلاءِ على الممتلكاتِ، وإشعالِ الحرائقِ، وتلك تجربةُ حمصَ وحماهُ والسّاحلِ، مَعاشةٌ وجاريةٌ بلا أيّةِ ضوابطٍ.
٦
الجبلانِ مُستهدَفانِ، والطّائفتانِ تجري محاولاتُ تشتيتِها وتهجيرِها وتفكيكِ وحدتِها، وكلتاهما تمثّلان الصّمغَ اللاصقَ للوحدةِ الوطنيّةِ، ولقيمِ الشّامِ، وعقلانيّتِها، ونموذجِها الفريدِ. محكومتان بأن تُقاوِما وأن تَصبِرا وتَتحمّلا، لا خيارَ آخرَ إلا القتلَ والتهجيرَ والتبديدَ والإبادةَ.
فِرَقُ الشّامِ الدينيّةُ تتململُ، وتُجّارُ الشّامِ بدأوا حراكًا اعتراضيًّا على إجراءاتِ إضعافِهم تمهيدًا لإقصائِهم لصالحِ شراكةٍ إسرائيليّةٍ-أردوغانيّةٍ. وكذلك صناعيّو وتُجّارُ حلبَ وحماهُ وحمصَ، فهم أكثرُ من تضرّرَ من تفكيكِ وسرقةِ المعاملِ والبُنى التّحتيّةِ، واشتدادِ منافسةِ البضائعِ والتّجارِ الأتراكِ الّذين يتعاملونَ بثأريّةٍ وحقدٍ ضدّهم كغزاةٍ ومُحتلّينَ، ساعينَ لإخضاعِهم بعصبيّةٍ سَلْجوقيّةٍ عدوانيّةٍ، وبِرداءٍ عُثمانيٍّ مُتقادمٍ وبالٍ، أوّلُ من انتفضَ عليه إدلبُ وحلبُ وحماهُ، يوم كانت سَلطنةً ومُتمكّنةً.
٧
هكذا تتّضحُ الصّورةُ والمخطّطاتُ، وتنكشفُ الأكاذيبُ والتّوافقاتُ، وتَتّضحُ وظائفُ العابِرينَ الغزاةِ.
فكيف ستكونُ النّتائجُ؟ وتَرتسمُ ملامحُ المستقبلِ؟ وكم سيدومُ الظُّلمُ والقتلُ والاستباحةُ؟
فكلُّ الوقائعِ والمعطياتِ والبيئاتِ الاستراتيجيّةِ والتّحوّلاتِ الجاريةِ تُفيدُ بأنّه زمنٌ انتقاليٌّ، لا احتمالَ لدوامِه، وإنْ زادَ سَفكُ الدّماءِ.
متى ستعودُ الشّامُ سيّدةَ الأممِ العقلاءِ؟
المؤشّراتُ تُفيدُ بأنّ زمنَها أزِفَ ويَقتربُ وَعدُها، والأمرُ يَستوجبُ صبرَها، فأحلكُ اللّيلِ آخرُهُ، وأشعّةُ الفجرِ باديَةٌ، والصّبحُ بقريبٍ.
في تفصيلِ المعطياتِ والمؤشّراتِ الواعدةِ، والبيئاتِ النّاضجةِ، سيكونُ لنا كلامٌ في الأيّامِ الآتيةِ.
اللهم احمِ سوريّةَ وأهلَها ووحدتَها، فقد خلقْتَها ومَنَحتَها وظيفتَها، ولن تتركَها للشّيطانِ.